140
دليل, آلو
منى برنس
كانت الدكتورة م. تعتقد بما يشبه اليقين أن شهر أغسطس هو ألطف شهر من شهور الصيف و أن يونيو أسوأها. إلا أن حرارة و رطوبة الأيام الأخيرة, و التي لا يستطيع خبراء الأرصاد الجوية التنبؤ بانخفاضها, قد أثبتتا خطأ اعتقادها. و لم يكف القاهرة رياح الصحراء القادمة من المملكة الشقيقة التي ألهبت جلودنا, بل كان ينقصنا حريق مجلس الشورى, و ما قيل عن حرائق أخرى " محدودة" بمجلس الشعب, الجمعية الجغرافية, بنك ما, و مجمع التحرير, كي ترتفع درجة الحرارة لتصل الى الغليان, اضافة الى التلوث !
الدكتورة م. تشعر بالاختناق, و تفكر جديا في تمضية بقية العطلة في مكان بارد. تفتح الأطلس الجغرافي القديم الذي أهداه لها والدها في عيد ميلادها السابع. لا تزال تفضل هذا الأطلس على غيره رغم النقص الذي يشوبه الآن بعد أن زالت دول و ظهرت غيرها لا تعرف مواقع معظمها. تبحث بين معلوماته المبسطة و خرائطه الكبيرة الملونة عن الأماكن التي تنعم بالشتاء في مثل هذا الوقت من العام. أمريكا الجنوبية. لطالما رغبت في زيارة بلدان تلك القارة. لكن ظروفها المادية لن تمكنها أبدا من القيام بتلك الرحلة حتى لو باعت كل شيء تملكه بما في ذلك جسدها. تتذكر أن لها صديقا يعمل و يسكن في كوستاريكا. تبتسم و هي تتذكر ذلك الصديق الذي فضحها أمام العائلة و الجيران من فرط فخره بتقدمه في دراسة اللغة العربية التي كانت الدكتورة م. تدرسها له. لا تزال تحتفظ بتلك الرسالة الغرامية المنمقة ذات الخط الجميل التي أرسلها ذلك الصديق في ظرف من تلك الظروف التي لا تلصق. مع اهمال موظفي مكاتب البريد, جاءت الرسالة متدلية من الظرف تغري كل من يتناولها بقراءتها الى أن وصلت في النهاية الى يد الكتورة م. بعد أن قرأها البواب, و بعض الجيران, و أفراد عائلتها.
تبحث في الأجندات المكتبية المختلفة المتناثرة بأرجاء المنزل عن أرقام هواتف سفارة كوستاريكا. لا ترى اسم السفارة مدرجا. تنتبه كذلك الى أن الأجندات لم تطور معلوماتها عن أرقام الهواتف المعمول بها حاليا. ستضطر اذن الى ما لابد منه. الاتصال بالدليل و التزلل لعاملات التلفون اللواتي تتمنى لو يصبن بالخرس فلا تضطر أبدا لسماع تلك الأصوات البشعة التي لا تنم الاعن كره صاحباتها لعملهن, و لأنفسهن, و للبشرية جمعاء.
تنظر الى ساعة الحائط, بعد الواحدة ظهرا بخمس دقائق.
تتصل الدكنورة م. ب 140 و بحركة لا ارادية تبعد سماعة الهاتف قليلا عن اذنها اليسرى حتى لا يصيبها الصوت الحاد الذي سيرد. صوت الجرس يرن, مرة, مرتان. تبدأ الدكتورة م. بالنظر الى السقف و التأفف. ثلاث مرات , أربع مرات.. ربما ذهبت الموظفات للصلاة و تركن عملهن. " استحالة أن يتقبل الله صلاتهن و هن يسئن معاملة الناس, استحالة !" رغم أن الدكتورة م. لا تحب عادة اصدار أحكام على الآخرين, الا أنها لا تستطيع التعامل بحياد عندما يتعلق الأمر بموظفي الحكومة و ما تبقى من القطاع العام, خاصة النساء منهم. تهم باغلاق الخط, لكنها تسمع صوتا شبابيا مرحا..
" مساء الخير, أحمد السيد مع حضرتك.. تحت أمرك.."
الكتورة م. تتخض, و تقرّب السماعة من أذنها ثم تلصقها بها تقريبا.
يعيد الصوت الشاب نفس الجملة..
تضع الدكتورة م. السماعة على عجل و تغلق الخط باستغراب. " أكيد أنا طلبت الرقم غلط. " كل موظفو الدليل حسب خبرتها المريرة من النساء اللواتي لا يحيين أحدا أبدا و لا يردن على أي تحية.
تتصل بالدليل مرة أخرى...
" آلو مساء الخير, معاك عبير أنور, في خدمتك... "
ترفع الدكتورة م. حاجبيها دهشة. يكرر الصوت البناتي نفسه, و عندما لا ترد الكتورة ينغلق الهاتف بهدوء.
ما الذي حدث؟ تتساءل الدكتورة م. 140 دليل بيقول مساء الخير !! " تحت أمرك... في خدمتك... مش " أيوة " التي كانت تخرق طبلة الأذن و التي كانت تعني " عاوز ايه " أو " عاوزة ايه " و كأنك تشحت الخدمة !! لا تصدق الدكتورة م. هذا التغيير. هل تكون أخطأت في ضرب الرقم. لكنه ثلاثة أرقام فقط, 140 واحد أربعة صفر.
تتردد قليلا ثم تطلب الرقم ثانية.
" آلو مساء الخير, نسرين صبري مع حضرتك يا فندم..."
" آلو.." ترد الكتورة بتوجس.
" تحت أمرك يا فندم."
" 140 دليل؟"
" أيوة يا فندم.."
من دهشتها, و ربما فرحتها بهذا اللطف و التهذيب المفاجئين, نسيت الدكتورة م. سبب اتصالها بالدليل. تتلعثم قليلا ثم تستعلم عن أول ما ورد على بالها " الاسعاف."
" الاسعاف يا فندم؟"
" أيوة."
" 123. واحد اتنين تلاتة"
" شكرا ."
" شكرا يا فندم على اتصالك ."
و كمان بيقولوا " شكرا " دلوقت, و بينطقوا الرقم رقم رقم و بالراحة, مش بيدلقوه كمقاطع و بسرعة فتضطر تقول ايه, و طبعا مش هتسمعه تاني..." الأغرب أن الموظفة لم تغلق الخط بعنف كالمعتاد في وجهها, بل حولتها الى الاسعاف مما اضطر الدكتورة م. الى أن تغلق الخط سريعا.
تضرب الدكتورة م. كفا بكف و هي لا تزال واقعة تحت التأثير السحري لهذا الذوق و الأدب غير المتوقعين بالمرة. لكنها في ذات الوقت تتساءل عما حل بالحرس القديم الذي لم تره مباشرة , و لكنها تكاد تجزم بأنهن يشبهن أولئك الموظفات ذوات الوجوه العابسة و الحانقة دوما في مكاتب البريد, اللواتي لا يناولنك أبدا ما تريد أو يضعنه بهدوء على البنك الفاصل بينك و بينهن, بل يلقين به تقريبا في وجهك, و بتأفف, مع التأكيد على اشعارك طوال الوقت بأنهن يستطعن تعطيل مصلحتك و جعلك تروح و تجيء يوميا الى ان يتعطفن و يتكرمن بانهاء تلك المصلحة خصوصا اذا كانت تتعلق بدفتر توفير أو حوالة مالية أو صرف المعاشات . أين ذهبن هؤلاء النسوة الشريرات؟ هل تمت احالتهن الى المعاش المبكر, هل تم تحويلهن الى أعمال ادارية أخرى لا يتعاملن فيها مع الجمهور بشكل مباشر, فيستغلين الوقت المخصص للعمل في تقشير الخضروات و تبادل طرق تحضير الطعام أثناء النميمة على بعضهن البعض. و من أين أتى دليل التلفون بهؤلاء الشباب و الشابات المهذبات. لابد أنهن تلقين دورات تدريبية متخصصة. تبتسم الدكتورة م. لنفسها و هي ترى أن اللطف و التهذيب لا يحتاج الى دورات. لكن موضوع التحية حيرها. لم يعد أحد تقريبا في مصر يستخدم " صباح الخير" و " مساء الخير " معظم الناس يلقون ب " سامو عليكو " كمن يلقي بماء نار على الوجوه دون أي احساس حقيقي او تمن بالسلام و الخير.
تحاول تخيل هؤلاء الشباب الجدد. لا بد أنهم شباب يرتدون قمصانا و بنطلونات و رابطات عنق من هؤلاء الذين تراهم أحيانا في عربات المترو, شعرهم لامع و مصقول بفعل الجيل, و يتصببون عرقا من حر الازدحام و الالتصاق المقصود و غير المقصود ببعضهم البعض. طيب و الفتيات؟ كيف يبدون؟ هي لا ترى سوى تلك الفتيات اللائي يفرقعن الضحكات عمال على بطال بما يتفق تماما و عشوائية ملابسهن و التي بدورها لا تتفق مع ما هو مفترض أنه حجاب, و المنقبات اللائي يمسحن زبالة الشوارع بزيل جلابيبهن, رغم أن النظافة من الايمان !! هل هؤلاء الذين يردون بهذه اللياقة هم أنفسهم الذين يصرون على قراءة القرأن الكريم بصوت عال و تلحين خاصة إذا صادف وجود مسيحيين بالقرب منهم؟ هل يعانون من الشيزوفرانيا؟ لا تستطيع تخيلهم مع ذلك أبناء الطبقة "الراقية", ففي نهاية المطاف هم عمال و عاملات تلفون, و غالبا ذوو مؤهلات متوسطة, و أبناء و بنات الطبقة "الراقية" مكانهم البنوك و الشركات الأحنبية, هذا إذا كانوا يعملون من أصله, و لا تراهم بالشوارع أو عربات المترو, بل يختفون وراء الزجاج الغامق لسياراتهم الفارهة.
أخيرا تتذكر الدكتورة م. رغبتها في السفر الى كوستاريكا, و أنها لم تحصل بعد على رقم الهاتف الخاص بسفارتها. ترفع سماعة الهاتف و هي تدندن و تتصل ب 140 دليل.
" آلو, مساء الخير يا فندم, معاك محمد مصطفى... تحت أمرك..
" مساء الخير.. ممكن رقم سفارة كوستاريكا .."
" ثواني حضرتك, من فضلك خليكي عالخط.."
موسيقى !!
" أيوة يا فندم, متأسف ما فيش تلفون لسفارة كوستاريكا, تاخدي حضرتك تلفون بنما, الدولة اللي بعدها؟ "
تقهقه الدكتورة م. و هي تسمع عرض الموظف, و تتذكر الجملة الشهيرة لفؤاد المهندس في مسرحية " سك على بناتك " , " بلاها نادية خد سوسو "
" لأ شكرا, أنا عايزة كوستاريكا "
" متأسف يا فندم بس هي غالبا مالهاش سفارة, لأنها دولة صغيرة. "
لم تشأ ان تجرح مشاعره و تخبره بأن هناك دولا أصغر من كوستاريكا بكثير و لها سفارات.
" ما فيش مشكلة, شكرا "
"شكرا يا فندم على اتصالك في أي وقت."
رغم كل شيء, لا تزال الدكتورة م. تقدر في المصريين رغبتهم في افادة الغير حتى و لو عن جهل, و هو الأمر الذي يجعلها تبتسم رغما عنها. حالة المرح التي أصابتها جراء الاتصال بالدليل " الجديد" جعلتها تتصرف بصبيانية. أعجبتها اللعبة, فأخذت تتصل بالدليل و تطلب أرقام هواتف أي شيء يخطر على بالها.
" آلو مساء الخير..معاك علا طاهر.. في خدمتك يا فندم.. "
" آلو مساء الخير, معاك عادل لبيب. اؤمريني حضرتك..."
" آلو مساء الخير, معاك ميرفت كريم... تحت أمرك يا فندم... " الى ان نسيت الحر و الرطوبة و كوستاريكا و " سامو عليكو ", " 140 دليل, آلو " و لم تعد تذكر الا شياكة الخصخصة.
دليل, آلو
منى برنس
كانت الدكتورة م. تعتقد بما يشبه اليقين أن شهر أغسطس هو ألطف شهر من شهور الصيف و أن يونيو أسوأها. إلا أن حرارة و رطوبة الأيام الأخيرة, و التي لا يستطيع خبراء الأرصاد الجوية التنبؤ بانخفاضها, قد أثبتتا خطأ اعتقادها. و لم يكف القاهرة رياح الصحراء القادمة من المملكة الشقيقة التي ألهبت جلودنا, بل كان ينقصنا حريق مجلس الشورى, و ما قيل عن حرائق أخرى " محدودة" بمجلس الشعب, الجمعية الجغرافية, بنك ما, و مجمع التحرير, كي ترتفع درجة الحرارة لتصل الى الغليان, اضافة الى التلوث !
الدكتورة م. تشعر بالاختناق, و تفكر جديا في تمضية بقية العطلة في مكان بارد. تفتح الأطلس الجغرافي القديم الذي أهداه لها والدها في عيد ميلادها السابع. لا تزال تفضل هذا الأطلس على غيره رغم النقص الذي يشوبه الآن بعد أن زالت دول و ظهرت غيرها لا تعرف مواقع معظمها. تبحث بين معلوماته المبسطة و خرائطه الكبيرة الملونة عن الأماكن التي تنعم بالشتاء في مثل هذا الوقت من العام. أمريكا الجنوبية. لطالما رغبت في زيارة بلدان تلك القارة. لكن ظروفها المادية لن تمكنها أبدا من القيام بتلك الرحلة حتى لو باعت كل شيء تملكه بما في ذلك جسدها. تتذكر أن لها صديقا يعمل و يسكن في كوستاريكا. تبتسم و هي تتذكر ذلك الصديق الذي فضحها أمام العائلة و الجيران من فرط فخره بتقدمه في دراسة اللغة العربية التي كانت الدكتورة م. تدرسها له. لا تزال تحتفظ بتلك الرسالة الغرامية المنمقة ذات الخط الجميل التي أرسلها ذلك الصديق في ظرف من تلك الظروف التي لا تلصق. مع اهمال موظفي مكاتب البريد, جاءت الرسالة متدلية من الظرف تغري كل من يتناولها بقراءتها الى أن وصلت في النهاية الى يد الكتورة م. بعد أن قرأها البواب, و بعض الجيران, و أفراد عائلتها.
تبحث في الأجندات المكتبية المختلفة المتناثرة بأرجاء المنزل عن أرقام هواتف سفارة كوستاريكا. لا ترى اسم السفارة مدرجا. تنتبه كذلك الى أن الأجندات لم تطور معلوماتها عن أرقام الهواتف المعمول بها حاليا. ستضطر اذن الى ما لابد منه. الاتصال بالدليل و التزلل لعاملات التلفون اللواتي تتمنى لو يصبن بالخرس فلا تضطر أبدا لسماع تلك الأصوات البشعة التي لا تنم الاعن كره صاحباتها لعملهن, و لأنفسهن, و للبشرية جمعاء.
تنظر الى ساعة الحائط, بعد الواحدة ظهرا بخمس دقائق.
تتصل الدكنورة م. ب 140 و بحركة لا ارادية تبعد سماعة الهاتف قليلا عن اذنها اليسرى حتى لا يصيبها الصوت الحاد الذي سيرد. صوت الجرس يرن, مرة, مرتان. تبدأ الدكتورة م. بالنظر الى السقف و التأفف. ثلاث مرات , أربع مرات.. ربما ذهبت الموظفات للصلاة و تركن عملهن. " استحالة أن يتقبل الله صلاتهن و هن يسئن معاملة الناس, استحالة !" رغم أن الدكتورة م. لا تحب عادة اصدار أحكام على الآخرين, الا أنها لا تستطيع التعامل بحياد عندما يتعلق الأمر بموظفي الحكومة و ما تبقى من القطاع العام, خاصة النساء منهم. تهم باغلاق الخط, لكنها تسمع صوتا شبابيا مرحا..
" مساء الخير, أحمد السيد مع حضرتك.. تحت أمرك.."
الكتورة م. تتخض, و تقرّب السماعة من أذنها ثم تلصقها بها تقريبا.
يعيد الصوت الشاب نفس الجملة..
تضع الدكتورة م. السماعة على عجل و تغلق الخط باستغراب. " أكيد أنا طلبت الرقم غلط. " كل موظفو الدليل حسب خبرتها المريرة من النساء اللواتي لا يحيين أحدا أبدا و لا يردن على أي تحية.
تتصل بالدليل مرة أخرى...
" آلو مساء الخير, معاك عبير أنور, في خدمتك... "
ترفع الدكتورة م. حاجبيها دهشة. يكرر الصوت البناتي نفسه, و عندما لا ترد الكتورة ينغلق الهاتف بهدوء.
ما الذي حدث؟ تتساءل الدكتورة م. 140 دليل بيقول مساء الخير !! " تحت أمرك... في خدمتك... مش " أيوة " التي كانت تخرق طبلة الأذن و التي كانت تعني " عاوز ايه " أو " عاوزة ايه " و كأنك تشحت الخدمة !! لا تصدق الدكتورة م. هذا التغيير. هل تكون أخطأت في ضرب الرقم. لكنه ثلاثة أرقام فقط, 140 واحد أربعة صفر.
تتردد قليلا ثم تطلب الرقم ثانية.
" آلو مساء الخير, نسرين صبري مع حضرتك يا فندم..."
" آلو.." ترد الكتورة بتوجس.
" تحت أمرك يا فندم."
" 140 دليل؟"
" أيوة يا فندم.."
من دهشتها, و ربما فرحتها بهذا اللطف و التهذيب المفاجئين, نسيت الدكتورة م. سبب اتصالها بالدليل. تتلعثم قليلا ثم تستعلم عن أول ما ورد على بالها " الاسعاف."
" الاسعاف يا فندم؟"
" أيوة."
" 123. واحد اتنين تلاتة"
" شكرا ."
" شكرا يا فندم على اتصالك ."
و كمان بيقولوا " شكرا " دلوقت, و بينطقوا الرقم رقم رقم و بالراحة, مش بيدلقوه كمقاطع و بسرعة فتضطر تقول ايه, و طبعا مش هتسمعه تاني..." الأغرب أن الموظفة لم تغلق الخط بعنف كالمعتاد في وجهها, بل حولتها الى الاسعاف مما اضطر الدكتورة م. الى أن تغلق الخط سريعا.
تضرب الدكتورة م. كفا بكف و هي لا تزال واقعة تحت التأثير السحري لهذا الذوق و الأدب غير المتوقعين بالمرة. لكنها في ذات الوقت تتساءل عما حل بالحرس القديم الذي لم تره مباشرة , و لكنها تكاد تجزم بأنهن يشبهن أولئك الموظفات ذوات الوجوه العابسة و الحانقة دوما في مكاتب البريد, اللواتي لا يناولنك أبدا ما تريد أو يضعنه بهدوء على البنك الفاصل بينك و بينهن, بل يلقين به تقريبا في وجهك, و بتأفف, مع التأكيد على اشعارك طوال الوقت بأنهن يستطعن تعطيل مصلحتك و جعلك تروح و تجيء يوميا الى ان يتعطفن و يتكرمن بانهاء تلك المصلحة خصوصا اذا كانت تتعلق بدفتر توفير أو حوالة مالية أو صرف المعاشات . أين ذهبن هؤلاء النسوة الشريرات؟ هل تمت احالتهن الى المعاش المبكر, هل تم تحويلهن الى أعمال ادارية أخرى لا يتعاملن فيها مع الجمهور بشكل مباشر, فيستغلين الوقت المخصص للعمل في تقشير الخضروات و تبادل طرق تحضير الطعام أثناء النميمة على بعضهن البعض. و من أين أتى دليل التلفون بهؤلاء الشباب و الشابات المهذبات. لابد أنهن تلقين دورات تدريبية متخصصة. تبتسم الدكتورة م. لنفسها و هي ترى أن اللطف و التهذيب لا يحتاج الى دورات. لكن موضوع التحية حيرها. لم يعد أحد تقريبا في مصر يستخدم " صباح الخير" و " مساء الخير " معظم الناس يلقون ب " سامو عليكو " كمن يلقي بماء نار على الوجوه دون أي احساس حقيقي او تمن بالسلام و الخير.
تحاول تخيل هؤلاء الشباب الجدد. لا بد أنهم شباب يرتدون قمصانا و بنطلونات و رابطات عنق من هؤلاء الذين تراهم أحيانا في عربات المترو, شعرهم لامع و مصقول بفعل الجيل, و يتصببون عرقا من حر الازدحام و الالتصاق المقصود و غير المقصود ببعضهم البعض. طيب و الفتيات؟ كيف يبدون؟ هي لا ترى سوى تلك الفتيات اللائي يفرقعن الضحكات عمال على بطال بما يتفق تماما و عشوائية ملابسهن و التي بدورها لا تتفق مع ما هو مفترض أنه حجاب, و المنقبات اللائي يمسحن زبالة الشوارع بزيل جلابيبهن, رغم أن النظافة من الايمان !! هل هؤلاء الذين يردون بهذه اللياقة هم أنفسهم الذين يصرون على قراءة القرأن الكريم بصوت عال و تلحين خاصة إذا صادف وجود مسيحيين بالقرب منهم؟ هل يعانون من الشيزوفرانيا؟ لا تستطيع تخيلهم مع ذلك أبناء الطبقة "الراقية", ففي نهاية المطاف هم عمال و عاملات تلفون, و غالبا ذوو مؤهلات متوسطة, و أبناء و بنات الطبقة "الراقية" مكانهم البنوك و الشركات الأحنبية, هذا إذا كانوا يعملون من أصله, و لا تراهم بالشوارع أو عربات المترو, بل يختفون وراء الزجاج الغامق لسياراتهم الفارهة.
أخيرا تتذكر الدكتورة م. رغبتها في السفر الى كوستاريكا, و أنها لم تحصل بعد على رقم الهاتف الخاص بسفارتها. ترفع سماعة الهاتف و هي تدندن و تتصل ب 140 دليل.
" آلو, مساء الخير يا فندم, معاك محمد مصطفى... تحت أمرك..
" مساء الخير.. ممكن رقم سفارة كوستاريكا .."
" ثواني حضرتك, من فضلك خليكي عالخط.."
موسيقى !!
" أيوة يا فندم, متأسف ما فيش تلفون لسفارة كوستاريكا, تاخدي حضرتك تلفون بنما, الدولة اللي بعدها؟ "
تقهقه الدكتورة م. و هي تسمع عرض الموظف, و تتذكر الجملة الشهيرة لفؤاد المهندس في مسرحية " سك على بناتك " , " بلاها نادية خد سوسو "
" لأ شكرا, أنا عايزة كوستاريكا "
" متأسف يا فندم بس هي غالبا مالهاش سفارة, لأنها دولة صغيرة. "
لم تشأ ان تجرح مشاعره و تخبره بأن هناك دولا أصغر من كوستاريكا بكثير و لها سفارات.
" ما فيش مشكلة, شكرا "
"شكرا يا فندم على اتصالك في أي وقت."
رغم كل شيء, لا تزال الدكتورة م. تقدر في المصريين رغبتهم في افادة الغير حتى و لو عن جهل, و هو الأمر الذي يجعلها تبتسم رغما عنها. حالة المرح التي أصابتها جراء الاتصال بالدليل " الجديد" جعلتها تتصرف بصبيانية. أعجبتها اللعبة, فأخذت تتصل بالدليل و تطلب أرقام هواتف أي شيء يخطر على بالها.
" آلو مساء الخير..معاك علا طاهر.. في خدمتك يا فندم.. "
" آلو مساء الخير, معاك عادل لبيب. اؤمريني حضرتك..."
" آلو مساء الخير, معاك ميرفت كريم... تحت أمرك يا فندم... " الى ان نسيت الحر و الرطوبة و كوستاريكا و " سامو عليكو ", " 140 دليل, آلو " و لم تعد تذكر الا شياكة الخصخصة.
هناك 4 تعليقات:
الأستاذة منى
لا توجد سفارة لكوستاريكا ليس على الدليل فقط ولكن في أرض الواقع حيث لم تنشأ كوستاريكا سفارات لها في أي دولة عربية ومنذ 2006 وهم يعتزمون إنشاء أولى سفاراتهم لدى الدول العربية في القاهرة غير أنهم لم يفعلوا حتى الآن حسب اعتقادي
دكتوره منى
اهلا بيكي ... اولا احب اعرفك على نفسي انا وسام من الدليل ... ثانيا طبعا بجد شئ بيرفع من المعنويات انك تحسي انك عملت حاجه والتغيير الى انت حستيه ده هو نتاج تعب 4 سنين كاملين بداية من اغسطس 2005 وده تاريخ انطلاق الخدمة بشكلها الجديد ... نيجي بقى لسؤالك عن شكل العاملين بالمركز لوقتى فاحب اقولك ان عددنا بيزيد عن الف شاب وفتاه كلنا من خريجي اقسام اللغات فى كليات الالسن والاداب والتربيه واللغات والترجمه الفورية وفى منا ناس كتير بتكمل دراسات عليا وبيحضروا دبلومات فى اللغه وفى اداره الاعمال وماجستيرات بس للاسف مش كتير من عملاءنا يعرفوا عنا المعلومات ده وده بيبان من اسلوب معاملتهم لينا ... على العموم احنا لسه فى انتظار تقدير الناس لينا ... نيجي بقى لموضوع كوستاريكا ... فعلا كوستاريكا مالهاش اى تميل دبلوماسي في الدول العربية والبديل اللى اداهولك الزميل ده بديل صح جدا مالهوش ابدا دعوه بمبدأ الفتوى عن جهل لان غالبا لما بتبقى فى دولة مالهاش سفارة بيبقى فى مكاتب تمثيل دبلوماسي فى سفارات دول الجوار وده بتبقى البديل المناسب
فى النهاية احب برضه اشكرك على تقديرك للشكل الجديد للخدمة
والله فاضية
استمتعت بالقصه واتطلع للمزيد
إرسال تعليق